بيتزا ببروني
سامح مبروك يكتب " بيتزا ببروني " من سلسلة مقالات ترندات وتوباكو*.
القطار
في إحدى ساحات الألعاب الصغيرة المجاورة لمحطة القطار بمدينة الزقازيق جلست هبة تطالع أغلى ما وهبها المنان، تلك المنحة الإلهية التي أضاءت ظلام حياتها بعد سنوات عجاف امتلأت بالحزن والسعي بل العدو والكثير من التجارب والتدخلات الطبية، حتى شاء القدير بعد طول انتظار وأهداها فريد، طفل جميل الشكل وحسن الخلق، كانت عيناه العسليتان وشعره الذهبي المنسدل حتى كتفية وملامحه البريئة كفيلة بأن تخطف قلوب من يراه.
ها هو يتم سنواته الخمس الأولى يلعب كما وعدته أمه بتلك الألعاب المبهجة على الرغم من قدمها الشديد وحالتها المهترئة، كانت بسماته تلامس قلب أمه قبل أن ترتسم على شفتيه، وبينما كان يركض من لعبة لأخرى ظهرت من العدم سارة صديقة هبة القديمة فتبادلا العناق والقبلات والكثير من الأحاديث عن الذكريات، وبعد لحظات انشغال طافت هبة بناظريها الساحة بحثًا عن فريد ولكن الفراغ قد ابتلعه للمجهول.
هرولت تصرخ باسمه وتبحث عنه على دون هدف أو هدى وآلاف الأفكار السوداء تغزو خاطرها ما بين خطف أو تسول أو تجارة رقيق أو حتى تجارة أعضاء، ووسط صخب تلك الأفكار … ضاع فريد.
بيتزا ببروني
في إحدى الليالي الصيف دق جرس الباب معلنًا قدوم عامل توصيل البيتزا، فذهبت ساندرا تفتح الباب وفي أعقابها إبنها اللطيف الذي تخطى حاجز الخمس سنوات ببضع شهور، ليستقبل البيتزا الببروني التي انتظرها بفارغ الصبر، فتحت الباب المؤدي إلى فراندة صغيرة يحيطها سور وباب خشبي كما تتميز بيوت الريف الأمريكي، وأخذت البيتزا من ريان عامل توصيل البيتزا بعد أن أعطته ثمنها وهمَّ بالرحيل، وقبل أن يغلق باب الفراندة من الخارج فوجئ كما فوجئت ساندرا بالطفل الصغير يركض خلف ريان على غير عادته، ليعانقه عناقًا مفاجئًا ودافئًا، لم تنهر ساندرا ولدها أو تمنعه بل تركته يغوص في هذا العناق، وسط ترحيب وفرحة عارمة من ريان الذي شكرهما بشدة وذهب.
بعد ذلك بيومين كانت ساندرا تفرغ محتويات كاميرات المراقبة كالعادة، وفوجئت بمقطع فيديو للحظة العناق اللطيفة، فأحبت أن تشاركها مع أصدقائها عبر وسائل التواصل وكتبت:
لقد كان حادثًا غريبًا ومضحكًا في نفس الوقت، أتمنى أن يملأ مقطع الفيديو هذا قلوبكم بالدفئ كما فعل معنا.
ريان
وفي غضون ساعات تناقلت الملايين هذا الفيديو اللطيف حتى وصل ريان عامل البيتزا، فاستطاع أن يميز حساب والدة الطفل الذي نشرت من خلاله المقطع فبعث لها هذه الرسالة:
أشكرك على مشاركة هذا المقطع اللطيف وكلماتك الودودة، في الحقيقة لقد أمدني هذا العناق المفاجئ بطاقة كنت بحاجة إليها وجعلني أقبل على الحياة من جديد، فقد كنت أعاني من حالة اكتئاب شديدة كادت تودي بحياتي، فقد كنت على شفير الانتحار بعد أن وافت ابنتي الوحيدة ذات الستة عشر عامًا المنية بعد صراع مرير مع مرض نادر، كنت غارقًا في حزني وأتمنى ولو لحظة عناق واحدة مع إبنتي الفقيدة، حتى أتى عناق ابنك اللطيف فأطفأ نار قلبي وأنبت بذور الأمل والحب من جديد. شكرًا لك ولابنك.
حركت رسالة ريان المفاجئة مشاعر ساندرا، وعلى الرغم من أن جزءًا ما في أعماق قلبها كان على يقين أن هذا العناق لم يكن عبثيًا أو محض صدفة، لكنها لم تتخيل ما وراء هذا العناق من مشاعر، فقررت بعد أن استأذنت ريان أن تنشر كافة التفاصيل على صفحتها وذكرت صفحة ريان وعزته على فقيدته، ليتناقل الملايين هذا المنشور من جديد وتتهافت برقيات التعزية على حساب ريان لتملأ وحدته وتداوي جراحه، بل أن الأمر تطور لجمع تبرعات تساعدة في حياته مما ساق إليه ملايين الدولارات بدون حول منه ولا قوة.
فريد
بعد سنة من البحث في كافة المستشفيات وأقسام الشرطة في الشرقية وخارجها وملايين المنشورات والتوسلات للمساعدة على إيجاد فريد وردَّه لحضن أمه، قررت هبة وزوجها البحث في ملاجئ إيواء الأطفال، وفي إحدى المراكز الحديثة في القاهرة، كانت سيدة أربعينية لطيفة في استقبال هبة وزوجها اللذان كانت تكسوهما علامات الحزن والإعياء، فآثرت السيدة أن تواسيهما قليلًا قبل دخول الأطفال نزلاء الملجأ لعل أحدهم فريد فقالت لهم:
ماتيأسوش أبدًا، إن شاء الله ربنا هيردهلكم ويقرعنيكم بيه. أنا فضلت كتير بحلم إني اساعد كل طفل تايه وكان الحلم بعيد جدًا لحد ما ربنا كرمني بمنحة من أمريكا جت من منظمة لرعاية المفقودين، المنحة دي من فلوس اتبرع بيها عامل توصيل بيتزا اسمه ريان لمنظمة رعاية المفقودين.
وقصت عليهما قصة رايان والعناق الشهير، وأثناء اختتامها للقصة دخل الأطفال واحدًا تلو الآخر وكان ثالث من دخل بدر منير كسره الحزن والفقد، طفل ساقته قدماه اثناء لهوه وركضه لقطار حمله للقاهرة لتبتلعه، قبل أن ينقذه أحد العاملين بهذا الملجأ من براثن المجهول، لقد كان فريد.
* ترندات وتوباكو هي مقالات في هيئة قصص قصيرة مستوحاة من ترندات فضاء المنصات الاجتماعية ولا تمثل أي شخصيات أو أحداث حقيقية.